في رحلة يومية اعتادت عليها، كانت سيدة عجوز تركب القطار ذهابًا وإيابًا، تاركةً وراءها أثرًا من الأمل يتحدى قسوة الطريق. فبينما ينساب القطار على سكّته، تفتح السيدة نافذة عربة القطار، وتخرج من حقيبتها كيسًا مليئًا ببذور الورد، وتُلقِيها بِعناية على جانبيّ الطريق. مشهدٌ يتكرر كل يوم، يثيرُ دهشةَ الرّكاب، ويُثيرُ تساؤلاتهم.
وذات يوم، لم يَصبر أحدُ الرّكاب على فضوله، فسأل السيدة العجوز عن سرّ هذا الفعل الغريب. فأجابته بِبساطة: “أُلقِي بذور الورد، لأُضفي لمسةً من الجمال على هذا الطريق الموحش، ولأُنعش الأمل في نفوسِ العابرين”.
استهزأ الرجلُ بكلامها، واعتقد أنّها قد فقدت عقلها. فكيف يمكن لبذور الورد أن تنمو على حافة طريقٍ قاسٍ كهذا؟ لكنّ السيدة العجوز لم تَكترث بسخريته، بل ردّت بِحكمة: “أعلمُ أنّ الكثير من هذه البذور لن ينمو، لكنّ بعضها سيجدُ فرصةً للحياة، وسيُنبتُ وردةً جميلة تُضفي بهجةً على هذا المكان.
وأنا أثقُ بأنّ قطراتِ المطر ستُروي عطشَها، وتُساعدُها على النموّ.”
لم يُدرك الرجلُ حينها عُمقَ إيمانِ السيدة العجوز، ورحلَ وهو يَشْفِقُ عليها. لكنّ الأيامَ أثبتتْ صدقَ إيمانها، ففي رحلةٍ لاحقةٍ للرجل على نفس القطار، فوجئ بِمنظرٍ خلابٍ لم يتوقعه. فقد اكتسَتْ حافةُ الطريق بَساطًا أخضرَ مُزَخرفًا بِأزهارِ الورد بألوانها الزاهية، مُغيّرةً مظهرَ المكان تمامًا.
تذكّر الرجلُ السيدة العجوز، وتملّكه شعورٌ بالأسى لِأنّها لم تُشاهدْ هذا المنظرَ البديعَ الذي صنعته يداها. فسألَ بائعَ التذاكر عن السيدة، فأخبره بِأنّها قد ماتتْ منذ أشهر.
شعرَ الرجلُ بِحزنٍ عميقٍ، لكنّه سرعان ما تملّكه شعورٌ آخرُ بالامتنانِ للسيدة العجوز. فقد أدرك أنّ عملها لم يذهبْ سدىً، وأنّها قد تركتْ أثرًا خالدًا في هذا العالم.
ففي تلك اللحظة، سمعَ صوتَ فتاةٍ صغيرةٍ تُعبّرُ عن سعادتها بِمشاهدةِ تلك الزهور الجميلة، وتُشاركُ والدها بهجتها.
أدرك الرجلُ حينها قيمةَ العطاءِ دون انتظارِ المقابل. فقد زرعتْ السيدةُ بذورَ الوردِ إيمانًا منها بِجمالِ الحياة، ولم تُبالِ بِأنّها قد لا تَرى ثمرةَ عطائها.
وتلك هي رسالةٌ خالدةٌ تُعلّمُنا أنّ السعادةَ الحقيقيةَ تكمنُ في العطاءِ وبذلِ الخير، وأنّ أثرَ عملنا الصالح يبقى حَيًّا بعدَنا، يُنيرُ دروبَ الآخرين ويُضفي بهجةً على حياتهم.
نُلقي بذورَ وردِنا في الحياة، ونُؤمنُ بِأنّها ستنبتُ يومًا ما، وتُزهرُ أزهارًا جميلةً تُضفي جمالًا على هذا العالم.